الأحد، مارس 23، 2008

مقاربة ابستملوجية لمدخل التدريس بالكفايات -الجزء الثاني -

ما علاقة كل ما سبق بالتحول التربوي؟ أشرت فيما سبق أن التربية كائن معرفي يتأثر بالإبدال المعرفي /البراديكم/الأفق المعرفي والمنهجي الذي تشتغل تحته جماعة فكرية في مرحلة ما/وبالتالي فهذا التوجه نحو علمنة المناهج والفصل بين الحقول المعرفية والتجريب والتحقق كمعيار للمعرفة العلمية للمرحلة ماقبل كارل بوبر* سحب بظلاله على جل الأنشطة الفكرية الإنسانية فلم يعد إبدالا فكريا لجماعة علمية فقط ، بل انتقلت حماه إلى مجالات ثقافية أخرى .كالأدب والتربية...فانشغل النقاد لزمن طويل بسؤال مؤسس للشعرية الجديدة: ما الذي يجعل من الأدب أدبا؟ ما الذي يفصل الشعر عن النثر ؟ ما الذي يميز الإنتاج الأدبي الإبداعي عن الكلام اليومي العادي.. فظهرت الشعرية كمنهج للبحث في الأدبية / في القوانين الداخلية المنتجة للخطاب الأدبي ،مستعيرة أسئلة الإبدال العلمي السائد في الأوساط الجامعية/دائرة فيينا مثلا،وانتقلت ثنائية العلم /اللاعلم إلى الحقل الإبداعي الأدبي :الأدب /اللا أدب، الشعر/ النثر..وانتقلت كل العدوى بحماها وهواجسها وشطحاتها وطموحاتها إلى الأدب.. فأصبح النص الأدبي حقلا تجريبيا ولا بد أن يستجيب لمعايير نظرية لإنتاج الأدبية ..فكثر الإحصاء والجداول وتحولت الرواية إلى برامج محددة التحولات والمسارات وبنية من الوظائف تخضع لنظرية تم استقاء مكوناتها من استقراء لنصوص متعددة أفرزت طريقة إنتاج الدلالة والخطاب..فكان العصر حافلا بهاجس العلمية :علمنة البحث الأدبي وبناء نظريات تتخطى لعب دور الوسيط في الإفهام والتنوير والتوجيه، نحو نظريات لا تعنيها الدلالة إلا بقدر ما هي مادة اشتغلت عليها مجموعة عناصر بنيوية ووظيفية فأصبح الوضوح ليس الدلالة أو القول بل كيفية إنتاج الدلالة والقول...أي الخطاب.. إنه عصر التجريب بكل المفاهيم وعصر المناهج النووية التجزيئية والعصر الذي سادت فيه جماعات علمية في العلوم الحقة والإنسانية استبدت بها فكرة علمنة الموضوع والتحكم في إنتاج الخطاب علميا كان أم إبداعيا ...عصر توحيد لغة العلم وتنميط النماذج الثقافية....وبالتالي فالتربية لن تكون بمنأى عن هذا الإبدال المعرفي وأصابتها العدوى أيضا فانتقل فيروس علمنة التربية وتجلياتها الإجرائية من بيداغوجيا وديداكتيكا ، فاتخذت التربية لنفسها السؤال نفسه...وحاولت أن تستفيد من الثورات العلمية في مجالات البحث السلوكي واختارت أن تحدد لنفسها الموضوع وبالتالي المنهج ولكنها ظلت لصيقة بهاجس القرن العشرين الفكري:التوحيد/التنميط/التحكم/التحقق/الملاحظة/الاستقراء...فأنتجت في ضوء طموحها للتحكم في سلوك الأفراد والتنبؤ بأفعالهم وتعديله أوتر سيخه ،بيداغوجيا تجزيئية ظاهراتية/ تعنى بالسلوك الإنساني الخارجي القابل للملاحظة والتحقق من تحولاته بواسطة المؤشرات التكميمية وجداول إحصائية تخلق وهم العلمية أمام كائن نتحقق من سلوكا ته الجزئية في وضعية محددة الحوافز والمحفزات والمؤثرات وفق قوانين تجريبية توحي بقانون العلية الإمبريقي ، فكان هذا الوهم نحو تحويل التربية إلى مجال للعلوم التجريبية آخر فتوحات الإبستملوجية التجربانية التي انهارت في مجالات العلوم الحقة وانهار معيار التحقق لتجد التربية نفسها مرة ثانية أمام فشل ذريع في اختياراتها البيداغوجية ، إذ لم يعد أمامها إلا أن: * تراجع طبيعة موضوعها فالإنسان ليس في نهاية المطاف ما نلاحظه من سلوكات وأفعال خارجية، أنه كائن معقد ويمتلك عالما خفيا ذهنيا داخليا نفسيا ووجدانيا يساهم في بلورة شخصيته وانجازاته * تغير منهجها بسقوط التجربانية وتراجع فتوحاتها وظهور ابستيمولوجيا جديدة مع العقلانيين الجدد كارل بوبر نموذجا أعاد للتربية دفء الأسئلة المرجعية، فنشأ سؤال الحداثة التربوية ارتباطا بدور العقل والنسبية والاحتكام دائما للمواقف التجريبية الجديدة...فمفهوم كارل بوبر للنظرية العلمية ونقده لمعيار التحقق وللمنهج التجرباني ، خلق منعطفا جديدا في فهم الإنسان والمعرفة الإنسانية.فإذا كانت نظرية بوبر تنبني على مفهوم التفنيد أي أن النظرية العلمية هي القابلة للدحض والتفنيد، وكل نظرية قابلة لذلك فهي علمية وليست صادقة بل لها درجة من الإثبات ترتقي وفق خضوعها لوقائع تجريبية جديدة، لا تمنحها الصدق بل درجة أعلى من الإثبات والمصداقية في التفضيل .كذلك تحول البراديكم الجديد نحو التربية فانتهجت البيداغوجيا الحداثية منهج الكفاية الإنسانية التي لا ترتبط بالسلوك إلا كمؤشر على تحققها أو عجزها عن التعامل مع وضعية/مشكلة/مهمة/واقعة جديدة، مما يعني تطويرها وتنميتها لتصبح قادرة على مواجهة الوضعية الجديدة. * تتطور أسئلتها بظهور التيارات الابستملوجيا الجديدة ما بعد الحداثية المشككة في الصرح العلمي أو النسوية التي تنتقد المعرفة كانجاز ذكوري أو الفوضوية مع فايرباند* مثلا والتي تقحم النسق المعرفي الغربي في السياسة والمال واللوبيات المتحكمة في نتاج معرفة ما وفق مواقع معينة ، وغايات يلتقي فيها السياسي والمالي والحضاري ،أسئلة التربية الحالية تنهل من هذا التحول في الإبدال المعرفي من معرفة تجربا نية إلى معرفة عقلانية نسبية افتراضية...فكان للتربية أن تتحول مع تحول هذا الإبدال المعرفي من تجر بانيتها إلى معرفية ذهنية تستحضر التعدد الإنساني في الإنتاجية الإبداعية ومختلف مكوناته الغائية غير المرئية في الفاعلية والأداء الحضاري. *أن تنتمي للبراديكم الفكري والعلمي الجديد، فتراجع التيارات التجربانية وفشل السكولوجيا التربوية السلوكية في بناء نظرية تربوية ، أعاد من جديد للواجهة عودة العقلانية الجديدة على أنقاض التناقضات الداخلية للمنهج التجرباني والانتقادات التي وجهت له ولأعم أسسه المنهجية من قوانين استقرائية . *ظهور قوي للعقلانية الحداثية التي أعادت للعقل الإنساني وظيفته في بناء المعرفة وإسقاط أسطورة الملاحظة الاستقرائية البانية للقوانين، مما جعل للتربية أسئلة جديدة حول الذهني كبعد أساسي في المعرفة والاختيار والتحليل والتصرف والوجداني في بناء المواقف ...لم يعد الفرد نتاج سلسلة نووية من السلوكات المكتسبة يمكن ملاحظتها والتحكم فيها تعديلا وتعزيزا، وقياسها وملاحظتها بل أصبح هم التربية هو فهم القدرات الذهنية والبنيات العقلية المجردة والمركبة والمهارات والقدرات والمعارف المدمجة والتي تجعله يتصرف تصرفا ابتكاري/إبداعي/تصريفي وغير نمطي /أي الطاقة الداخلية للإنسان التي تجعل منه مبدعا ومتصرفا في وضعيات مختلفة وفق نسق من الأداء /الإنجاز المعرفي المهاراتي السلوكي والمنهجي بدافع شحنة عاطفية وجدانية تؤسس للنفور أو الانخراط الممتع وبالتالي تجعل الاختلاف بدل التوحد والتصرف والإبداعية والابتكار بدل التكرار والتنميط والإنجاز السلوكي المرتقب أسس توجها ابستملوجيا جديدا في التربية...إن التحول نحو العقلانية الحداثية في التفكير الإنساني وسم العقل التربوي ذاته بخصائص التحول نفسه ، فالتوحد والتنميط الذي أملته سياقات معرفية تاريخية لها ما يفسرها في التسابق المنهجي نحو إضفاء الشرعية العلمية على التربية انسجاما مع موجة العلمنة والتي كانت تجد أدواتها في المنهج الو ضعاني الجديد ، وسياق الحرب الباردة وما خلفتها من صراع نحو تنميط ونمذجة الفرد بأدلجة التربية ، سقط بظهور القطب الأحادي وأنتج عولمة اقتصادية تخطط للفرد داخل شبكة من النشاط البشري الاقتصادي والاجتماعي. 2-من الخيار التربوي التجرباني إلى بيداغوجيا السلوك./الأهداف ارتبطت مقاربة التدريس بالأهداف بمشروعين ، معرفي ، وسسيو-اقتصادي. 2-1 السياق المعرفي:
لم تكن مقاربة التدريس بالأهداف تدور خارج فلك التربية كعلم حاول في القرن العشرين، وخصوصا خلال العشريات الأولى أن يؤسس انتماءه لروح المرحلة فكريا و علميا ومنهجيا وذلك بمد جسور الحوار المفاهيمي والمنهجي مع حركة العلمنة والوضعانيين الجدد الذين انشغلوا بتوحيد لغة العلم وفصل قضاياه عن الميتافيزيقا، فكذلك كان شأن التربية التي استعارت من حركة الوضعانيين الجدد أسئلتهم وبعض قواعدهم المنهجية وترسانة من المفاهيم ، وهذا انسجاما مع الطقس الفكري الذي حكم مرحلة فكرية بكاملها/البراديكم...فقد اغتنى الخطاب التربوي الجديد بمفاهيم نجد صداها في التجربانية ..التحقق كمعيار للمعرفة العلمية بفعل الملاحظة والاستقراء وتجزيء القضية العلمية أصبح في التربية الجديدة منهجا نوويا تجزيئيا للسلوك البشري الذي أصبح تطوره ,فعله ونشاطه قابلين للملاحظة والتحقق والقياس والتعميم كأننا أمام مبدأ العلية الذي شكل دوما رافد القوانين العلمية للتجربانيين قبل أن ينهار مع شك دافيد هيوم* وغيره من العقلانيين الحداثيين والمابعد حداثيين. ما علاقة كل الروافد السيكولوجية التي صاغت مقاربة التدريس بالأهداف /السلوكية بالإبدال المعرفي؟

ليست هناك تعليقات: